
عندما يقول أحد المسلمين دون الحاجة إلى تفكير عميق أن “الإسلام يحرم المثلية بلا شك” فإن هذه التلقائية لا تستند على النصوص فحسب، بل تستند -بشكل كبير- أيضًا على تراكمات فكرية وثقافية واجتماعية دعمت بل وساهمت في تأسيس .المفاهيم التي أدت إلى هذه التلقائية.
فنحن مثلًا كثيرًا ما نرى ترويجًا واضحًا لصورة معينة للرجل المسلم وصورة معينة للمرأة المسلمة، وهذه الصورة تختلف حسب مروجيها ولا تقتصر فقط على شكل الملابس والهيئة والعبارات التي يجب ترديدها، بل تمتد لتتناول الميول الجنسية والهوية الجندرية، فالمسلم حسب هذه الصورة لا يمكن إلا أن يكون مُغايرًا متوافق الهوية الجندرية.
من السهل ملاحظة أن معظم التراث الفقهي الإسلامي المعاصر يتعامل مع الرجل المسلم والمرأة المسلمة باعتبارهم مُغايرين؛ فالرجل المسلم مثلًا عليه أن يغض بصره عن النساء كما أن المرأة المسلمة عليها أن تتعامل بحياء مع الرجال، فلا نرى ظهورًا قويًا للميول المثلية أو حتى الثنائية كما لو أنه لا يوجد احتمال أن يميل المسلم إلى الرجال أو أن تميل المسلمة إلى النساء، بل إن كثيرًا من المفسرين المعاصرين أظهروا في كتبهم اشمئزازًا واضحًا من تصور العلاقة الجنسية المثلية وكثيرًا ما وردت عبارة “شهوة على خلاف الفطرة” أو “شيء تنفر منه الأنفس” في كتبهم لوصف العلاقات المثلية وهو ما يعكس وجهة نظر شخص مُصاب برهاب المثلية على غرار الأغلبية. أما المفسرون والفقهاء الأوائل فكثير منهم قد اعتبر الميول المثلية ميولًا طبيعية وتعامل معها على هذا الأساس حتى عند من شاع لديهم ربط المثلية بقصة قوم لوط، بل إن كتابات بعضهم تنم عن ميول كويرية واضحة.
وهذا المفهوم الشائع للصورة الافتراضية للرجل المسلم وللمرأة المسلمة لا يفتقر مرجعًا دينيًا أصيلًا فحسب، بل إنه يخالف الواقع الذي عاشه النبي وصحابته؛ حيث كانت الصحابيات والصحابة مثلًا في عهد النبي شخصيّات شديدة التنوع والاختلاف عن بعضها البعض فلا يمكنك حصر الصحابيات في نمط واحد ولا الصحابة كذلك. كما شهد عصر النبي حضورًا لأفراد متنوعين جندريًا وإن كانت الأحاديث لم تخبرنا عنهم الكثير إلا أنها توضح وجودهم الذي كان يبدو طبيعيًا، ولا يبدو أن رواة الحديث نقلوا لنا إلا حوادث قليلة جدًا عن “المخنثين” ولم يتحدثوا عنهم بهذا الوضوح سوى عندما منع النبي أهل بيته من السماح لأحد المخنثين بأن يدخل عليهن -وقد كان من المسموح له أن يدخل على النساء دون حاجة النساء إلى الاستحياء منه باعتبار أنه لا يميل إليهن- بعد أن قام بوصف جسد امرأة لأحد الرجال، ويبدو أن نقل هذه القصة وورودها في صحيح البخاري وصحيح مسلم هو ما مكننا من معرفة أحد جوانب قبول التنوع الجندري في مجتمع المدينة فضلًا عن جوانب التعددية الأخرى.
ليس بيننا مثلي
بين عصرنا وعصر النبي عصور شهدت تقلبات فكرية وثقافية وكان لكل منها واقعها التاريخي والاجتماعي الفريد، أما في عصرنا فالمثلية مرفوضة تحت مسمى الشذوذ وهو مصطلح يعبر في حد ذاته عن أحد أهم أسباب رفض المثلية، وهو أنها تخالف ما هو شائع، أنها ليست صفة الأغلبية، وهذا هو المخيف والمُربك بشأنها؛ فغالبًا ما ترفض المجتمعات المنغلقة الاختلاف وكلما كان هذا الاختلاف يُمثل تهديدًا للصور التي قدسها المجتمع لوقت كبير، كلما زادت شراسة الهجوم عليه، وفي حالة المثلية، فإنها تهدد صورة المجتمع عن الرجل المسيطر والمرأة الخاضعة، وهذا ربما يفسر تباين حدة الهجوم على الرجال المثليين مقارنة بالنساء المثليات؛ فمثلية النساء ليست تهديدًا كبيرًا بل قد تكون مقبولة في بعض هذه المجتمعات أحيانا.
ومن الطريف أن ما واجه به المجتمع المثليين هو إنكار حقيقة وجودهم بين أفراده من الأساس وعندما بات وجودهم حقيقة ظاهرة ادعى أنها ظاهرة دخيلة وأحيانًا أنها مؤامرة خارجية مُغرضة، غير أن هذه المزاعم تبدو هزيلة جدا أمام الوقائع التاريخية والحقائق العلمية، فتاريخ العرب عمومًا والمسلمين خصوصًا يشهد على وجود التعددية الجنسية والجندرية بصورة واضحة وملحوظة وكتب التراث تؤكد حضور أفراد مجتمع الميم بفئاته المتعددة في كل العصور الإسلامية على اختلاف مسمياتهم فيها.
وإن نظرت اليوم إلى اضطهاد المثليين في المجتمعات الإسلامية مقارنة بوضعهم في المجتمعات الأوروبية تجده أقرب إلى اضطهاد المثليين في المجتمعات الأوروبية مقارنة بوضعهم في المجتمعات الإسلامية قبل بضعة قرون، فحينما كان المثليون يتعرضون للقتل والتعذيب في أوروبا، كانت مظاهر التعددية الجنسية والجندرية تنتشر في مختلف أنحاء العالم الإسلامي في هذا الوقت.
هكذا قال الشيخ
كثيرًا ما يضفي العديد من الناس صفة القداسة على أئمة المساجد وخطباء الجمعة وربما أي شخص يرتدي جلبابًا وله لحية ويعتبرونهم ممثلو شريعة الله على الأرض، ورغم أن أغلبهم لا يدّعي هذا أصلًا فالبعض يتعامل مع ما يقولونه على أنه المراد الإلهي تمامًا، لكن الواقع يقول إن هؤلاء بشر تعلموا بعض علوم الدين وكُلفوا بإفادة من لم يتلقَ هذه العلوم مثلهم، وحيث أنهم بشر فهم أبناء عصورهم، يؤثر فيهم المجتمع وثقافته وأفكاره، والواحد منهم في المجتمعات العربية ينشأ مثل باقي أفراده على رفض الاختلاف والخجل من الحديث عن الميول الجنسية فضلًا عن دعم المختلف منها، مما يجعل تلقائية أحد الأئمة في ذم المثلية والمثليين واعتقاده الراسخ بأن الإسلام يحرم المثلية أمرًا مفهومًا إلى حد كبير، لكن ما يبقى محل سؤال هو ما يتجاوزه أولئك الأئمة أو ربما يتجاهلونه لدعم آراء المجتمع عن المثلية من منظور ديني.
المثلية حرام طبعًا، لكن تجاهل هذه النقطة
فإن أردت أن تعتبر أن الإسلام لا يشجع مفهوم الاختلاف عليك أن تتجاهل كل مظاهر التعددية في عهد النبي كما عليك أن تتجاهل التباين الكبير بين شخصيات الأنبياء والرسل أنفسهم بل عليك أن تتجاهل الآيات التي تحتفي بالتنوع في القرآن. وإن أردت أن تعتبر أن الميول المثلية والثنائية لا مكان لها في الإسلام عليك أن تتجاهل الفقهاء الذين تعاملوا مع الميول المثلية باعتبارها ميولًا طبيعية وعليك أن تتجاهل الميول المثلية التي تتضح في كتابات بعض المفسرين والفقهاء وسير علماء وشعراء وقضاة المسلمين. وإن أردت أن تعتبر أن النبي أمر بقتل المثليين عليك أن تتمسك بروايات ضعيفة وتتجاهل رفض جمهور أهل الحديث لها، عليك أن تتمسك بآثار لا تصح عن الصحابة وتتجاهل إجماع الجمهور على ضعفها، ربما عليك أن تتمسك بما قاله الألباني وتتجاهل ما قاله البخاري ومسلم.
وإن أردت أن تعتبر أن قصة قوم لوط هي تحريم للمثلية عليك أن تتجاهل أنها لم تتناول المثلية عند النساء، عليك أيضًا أن تتجاهل أنها لم ترد أبدًا في سياق جنسي، عليك أن تتجاهل أسباب النزول، عليك أن تتجاهل أنها لا تنطبق تاريخيًا ولا منطقيًا مع المثليين، عليك أن تغض الطرف عن كثير من النقاط حتى تقنع نفسك أو ربما تقنع أحدهم بأن القرآن “واضح جدًا” في تحريمه للمثلية.